حوار مع مصطفى الحلّاج | أرشيف

مقطع من نهر الحياة، مصطفى الحلّاج | متحف جامعة بير زيت

 

المصدر: «مجلّة المعرفة».

زمن النشر: 1 أيّار (مايو) 1975.

الكاتب: خليل صفيّة.

 


 

المعرفة: لنتّفق أوّلًا، هل هناك حركة تشكيليّة فلسطينيّة مميّزة، وما رأيك في هذه الحركة؟

مصطفى الحلّاج: الشيء الأكيد هو أنّ هناك حركة فنّيّة تشكيليّة عربيّة تطوّرت ولازمت نموّ الحسّ الوطنيّ إقليميًّا والحسّ القوميّ عربيًّا. ليس فقط في الفنّ التشكيليّ، وإنّما في جميع مجالات التعبير الجماليّ، لكن، عندما نقول إنّ هناك حركة تشكيليّة فلسطينيّة مميّزة، فإنّ هذا قد جاء من طبيعة الظروف العامّة الّتي أحاطت بالفنّان الفلسطينيّ، وعندما نستعرض الأشكال والأساليب لدى الفنّان الفلسطينيّ، نجد منابعها هي نفس منابع الفنّ العربيّ ككلّ، وفي الوقت ذاته، امتصّت التلوينات العربيّة للثقافة الغربيّة، وذلك يتمثّل في الدارسين للفنون التشكيليّة في الغرب. لكنّ الّذي يميّز الفلسطينيّ، أو الفنّانين الفلسطينيّين ككلّ، هو الموضوع والمضمون الّذي حطّم الشكل السائد في المنطقة، ليوجد أسلوبًا خاصًّا بالفنّان يوحّده مع تيّار عربيّ أحيانًا، وخاصّ به أحيانًا أخرى. أمّا الشيء الأكيد الّذي لا يستطيع أيّ دارس إنكاره؛ فهو الرؤية والمعاناة الفلسطينيّة للفنّان.

ولكن عند بعض الفنّانين في الفترة المتطوّرة من الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة، وجدت اللهجة الفلسطينيّة الخاصّة عند البعض، وليس إلّا لأنّهم خرجوا من المخيّمات أو من القرى غير المحتلّة إسرائيليًّا، ورغم استخدامهم التقنيّات المطروحة في الساحة العربيّة، تبقى خصوصيّة الوعي الجماليّ الفلسطينيّ الّذي تربّى في أحضانه. وقد كان للفنّان الفلسطينيّ ميزة السبق في مجال ربط الحياة اليوميّة بمعاناته الخاصّة وبمعاناة شعبه في نطاق العمل الفنّيّ، وإن كان مرتكزًا على تعاليم سائدة في المنطقة.

الترميز لديه كان عينيًّا ومباشرًا وليس ملتويًا. مثلًا، كان الفنّان العربيّ بعد أن قَدِمَ من الغرب يرسم الفلّاح والفقير والمظاهر الشعبيّة برؤية سائح، وكان الفلسطينيّ يستخدم نفس الأساليب التقنيّة السائدة، لكن يُظْهِر فيها معاناته الخاصّة الّتي تعكس معاناة شعبه. وفي مجال أحداث وأساليب ومناهج وطنيّة إقليميّة، أو عربيّة عامّة، وذلك مع ظهور الحركات الوطنيّة في فترات الاستعمار، وكان النقل بمنهج غربيّ للوحدات والزخارف والخطّ العربيّ، وقد لمس هذا الموضع بمهارة وتقنيّة باردة، حيث كان بعضهم إذا وضع في اللوحة كلمات عربيّة يعتقد أنّه أنتج فنًّا عربيًّا، وكان الفنّان الفلسطينيّ تحت حرارة المعاناة اليوميّة الّتي صهرت كلّ المكتسبات، وجعلت من الماضي والحاضر والمستقبل والشكل والمضمون واللون والرسم – أي أبجديّة صناعة اللوحة – شيئًا عضويًّا متلاحمًا، أي كانت أدواته توازي قدرته على الاستعياب بحيث كلّما زاد هذا الاستيعاب زادت أدواته.

 

المعرفة: أراك تؤكّد على خصوصيّة الفنّان الفلسطينيّ؛ تُرى ما هي العلاقات الحياتيّة والسياسيّة الّتي بلورت المعالم المميّزة للفنّان الفلسطينيّ؟ وهل من أوجه لقاء بينه وبين الآخرين؟

الحلّاج: كثيرًا ما قلت إنّه عندما طُرِدَ الفلسطينيّ من أرضه وجد نفسه في حالة خاصّة، ومَنْ بَقِيَ في بيته تحت الاحتلال أصبح في حالة خاصّة، وعندما انبثق الكفاح المسلّح الفلسطينيّ كان له سمات خاصّة، وحركته السياسيّة والدبلوماسيّة ذات سمات خاصّة. كيف نوضّح ذلك عن طريق المقارنة بين ابن المخيّم والفلسطينيّ في البلاد العربيّة والفلسطينيّ في البلاد الأجنبيّة والفلسطينيّ في الأرض المحتلّة، يحرقه يوميًّا وضعه الشاذّ، إنسانيًّا وسياسيًّا وحتّى يمسّ عمله اليوميّ. ما هي السمات ما بين أيّ شاعر عربيّ وبين شعراء الأرض المحتلّة؟ وبين شعراء الثورة في الخارج؟ سيجيب الشكليّ والأكاديميّ الّذي يعالج الموضوع بوجهة نظر نقديّة ميكانيكيّة أنّ الفروق بسيطة. لكنّ حركة الإيقاع والرمز والوزن والصورة الشعريّة والمعاناة اليوميّة تنضح بقوّة في عنفوان توفيق زيّاد وصرخة سميح القاسم وأعماق التاريخ الفلسطينيّ ميثولوجيًّا وشعبيًّا، والحياة اليوميّة عند محمود درويش والمخيّم عند أحمد دحبور. ونستطيع أن نجد ذلك في القصّة القصيرة والرواية وفي الفنون التشكيليّة. حتّى عند الفنّانين الّذين يفتقرون القدرة التكنيكيّة، مثل الطفل الّذي يحاول أن يتكلّم بلهجة غزّاويّة، وعندما أقول ذلك فلا يعني الحسّ الشوفينيّ، وإنّما خصوصيّة جزء من الشعب العربيّ.

 

المعرفة: هل الشكل الفنّيّ نتيجة لظرف حضاريّ معيّن يُفْرَض على الفنّان، أم أنّ الموضوع هو الّذي يفرض على الفنّان الشكل المناسب؟

الحلّاج: عادة الشكل محافظ والمضمون ثوريّ، لأنّ الشكل نتيجة متغيّرات لقوى وعلاقات الإنتاج، وعندما يأتي ثوريّ في أيّ فرع من النشاطات الاجتماعيّة والفكريّة، ويحاول أن يدمّر هذا الشكل، يهبّ كلّ مَنْ ارتبط وجوده بهذا الشكل لمحاربته. نستطيع أن نلمس ذلك في أشكال الأنظمة والحياة الاجتماعيّة والعادات والتقاليد والمقدّسات. لكن، عندما تطرأ متغيّرات جديدة تطرح الموضوع بمضمون جديد – تلقائيًّا – يحدث التدمير للشكل القديم ليناسب الشكل الجديد المنبثق من رماد الشكل القديم مع المضمون الجديد المتغيّر في الموضوع. مثلًا، مشكلة الحبّ موجودة على مدى التاريخ، والمتغيّرات الاجتماعيّة تغيّر من نوعيّة العلاقة، وبالتالي تغيّر من الشكل، وإذا تتبّعنا عملًا فنّيًّا تشكيليًّا أو قصّة أو أغنية حول مشكلة الحبّ، نستطيع أن نكتشف الجدل ما بين الشكل والموضوع، ولكنّ الشيء الأكيد هو الإنسان واحتياجاته البسيطة الّتي وُجِدَتْ قبل الشكل. ونجد المثاليّة الّتي بدأت متكاملة عند أفلاطون قد وضعت الشكل أوّلًا ثمّ محاولة الموضوع أن يلبس هذا الشكل، وعندما نقول فلان شكليّ، أي يكون راضخًا لشكل ثابت رغم المتغيّرات المحيطة به. والصراع ما بين الشكل والمضمون يحدّده حجم القوى الرجعيّة وحجم نسبة الحجم ما بين القوى الرجعيّة والتقدّميّة؛ فعندما يأتي مضمون جديد يُطْرَح عادة في نطاق الشكل القديم حتّى ينمو هذا المضمون ويفجّر الشكل القديم، ليوجد شكله الحديث، مثل السيّارة البخاريّة عندما أخذت شكل العربة.

 

المعرفة: ضمن محاولات خلق الشكل العربيّ في الفنون التشكيليّة، نجد بوادر تحرّك فنّيّ نحو التراث العربيّ من خلال عدّة مفاهيم (الأرابسك، الخطّ العربيّ، الزخرفة)، وهذه المحاولات قد تصل نسبيًّا للجدل التشكيليّ بين مفهوم (ماضي، حاضر، مستقبل)، وقد تسقط فريسة الماضي، أو الطرح برؤية سائح. ما رأيك في ما يُطْرَح من إشكالات؟

الحلّاج: إنّ بوادر التحرّك نحو التراث قد انبثق موازيًا للحركة الوطنيّة والحركة القوميّة والسياسيّة والاجتماعيّة في مواجهة الاستعمار والإمبرياليّة، وإنّ الفنّان الّذي درس في الغرب وجاء ليرتبط بهذه الحركة الوطنيّة، قد جاء بمنهج غربيّ وضبّب لديه القدرة على رؤية الذات القوميّة و الوطنيّة فيه، فما كان منه إلّا أن خرج يبحث عن ذلك في الخارج، في الوحدات والموتيفات والأشكال القديمة جدًّا، والّتي ميّزت حضارته القديمة. بدأ ذلك محمود مختار في مصر، حيث ذهب إلى الموضوعات الفرعونيّة القديمة بمنهج غربيّ، وبدأ هذا الخطّ ينمو في الوطن العربيّ إلى أن حدث التزاوج ما بين العنف التاريخيّ الكامن في شخصيّة الفنّان ولوّن هذا الشكل الغربيّ، فطبع الشكل الغربيّ بملامح بلده مثل جواد سليم، رغم أنّه استفاد من الفنّ الآشوريّ. والفنون عندما قلت (تضبيب)، أعني أنّ يد وعين وذهن الفنّان يتعاملون مع الخارج، خارج نطاق شرارة التجربة الشخصيّة اليوميّة؛ فنجد اللهفة والجري وراء الأسلوب المتميّز. وبين استيعاب التراث والملامح الخاصّة، قد ظهر وكأنّ الفنّان يلهث خلف شيء هو في الأصل داخله، لكنّ اندفاعه كان للخارج، بمعنى أنّ العمل الفنّيّ لم يكن نتيجة انصهار الحواسّ الخمس وموقف الفنّان وخبرته التقنيّة والموروث الكامن فيه وثقافته ومعاناته اليوميّة من حبّ وكره ورغبة في الحياة. إضافة إلى ذلك، تخريب الأكاديميّات العربيّة للفنّان الشابّ، فالبعض لمجرّد استخدامه اللون الشعبيّ أو الشكل الشعبيّ بشكل محايد وإعجاب سياحيّ، مع أنّه يمكن ذلك في داخله، لكن عندما يبحث عن الخارج ليفجّر الداخل ويحدث الجدل تكون النتيجة العمل الفنّيّ.

 

المعرفة: إذن، كيف تفهم عودة الفنّان الواعية للتراث، وهل ينحصر ذلك في إطار فترة عينيّة أم أنّ مجمل الحضارات العربيّة يمكن الإفادة منها في عمليّة العودة والجدل مع المعاصرة؟

الحلّاج: قلت في مؤتمر بغداد الأخير إنّ البحث في القبور والمتاحف يعبر شيئًا عظيمًا إذا كان ذلك يفجّر شرارة داخلنا، أمّا إذا كنّا نجمع ونُمَنْتِج بعض الأجزاء في لوحة، كمَنْ يحاول زرع عود جافّ في مقبرة وجلس يصلّي ويدعو أن تخضرّ، مَنْ يعمل في الحقل منهم، مَنْ يعمل لإشباع عين السائح القادم من الغرب أو يجسّم الشعارات السياسيّة لدى قوى السلطة، أو هاوي مديح كاذب انتقل إلى احتراف الفنّ والفهم الشكليّ، والحرفيّة جعلت الرغبة في استخدام الموروثات استخدامًا ميّتًا، وأصبحت هي الهدف مع أنّها وسيلة ومتمّمة لمكوّنات الفنّان. عندما يعي الفنّان دوره ويشحذ أدواته ويمسك الفرشاة ويقف أمام السطح الأبيض، ليس منتجًا لسلعة أو رغبة في تفريغ طاقة وشحنة ضبابيّة، أو للتواجد الاجتماعيّ تحت اسم فنّان وقد تضخّمت الاستعراضيّة فيه. عندما يكون الفنّان هو كلّه فرشاة في يد أمّة كامنة داخله – تلقائيًّا – سيتضمّن نتاج اصطدام الفرشاة بالسطح الماضي والحاضر والمستقبل.

ومن الرجعيّة والغباء أن يتقوقع الإنسان، وليس الفنّان فقط، في دائرة الإنتاج الحضاريّ لأمّته فقط، وخصوصًا في هذا العصر. بل يجب أن تكون جذوره ممتدّة في أعماق التاريخ في المنطقة والعالم وفروعه تعرّش على سطح العالم المعاصر، لتكون الثمرة هي نتاج مكتسب خصوصيّة أمّته والمكتسبات العالميّة. كيف يكون ذلك؟ أن يكون الفنّان كلّه بحواسّه كالقمع، اتّساع دائرة فتحته العالم، والزمن بامتداده، وطرف الفرشاة تخصّصه، أن لا يكون رسّامًا فقط، أن يعطي لتخصّصه اهتمامًا كبيرًا وللجانب التقنيّ، ولكن هو كإنسان أوّلًا، وإلّا سيصبح كسيّارة كاملة وليس فيها وقود ولا يعرف أين يتّجه.

 

المعرفة: تحدّثنا عن الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة والعربيّة، هل تحدّثنا عن تجربتك بالذات؟ من الممكن أن تبدأ مع البداية منذ وجودك في القطر العربيّ المصريّ، كيف كانت البداية؟ ولماذا كان التشكيل وسيلتك للتعبير دون غيره من الفنون الإنسانيّة؟

الحلّاج: قبل الإجابة عن هذا السؤال سنتحدّث عن الجوّ أو المناخ العامّ الّذي وُلِدْتُ وتربّيت فيه. وُلِدْتُ في فلسطين، وكبرت والعالم يحترق في الحرب العالميّة الثانيّة، ثمّ الصراع العربيّ الصهيونيّ – الثقافة الشعبيّة والثقافة المترجمة والحياة الاقتصاديّة للأسرة – والتشريد عام 1948، والسوح في الوطن العربيّ. مارست العمل منذ الطفولة، القراءة، المعاناة، وكان المفضّل عندي هو اللعب بالطين والرسم على الورق، وكنت وإخوتي وأولاد الجيران نعمل في الصيف في الحقول لجمع القطن، والدراسة في الشتاء، ثمّ موت والدي وتحمّل أعباء الأسرة والجوّ الاجتماعيّ المحاصر. وقراءة الصحف للفلّاحين المحيطين بي، والراديو الّذي صنعته وسمعت منه الموسيقى والأخبار والتمثيليّات. وكنت في هذه الفترة أستعير الكتب من مكتبة خاصّة مقابل 2.5 قرش عن الكتاب الواحد. وهناك آلاف العناصر من الحلم وحلم اليقظة والعالم الرديء. كان العالم سيّئًا وحلم اليقظة يولّد عالمًا مغايرًا له، وتعلّمت من المدرسة والأساتذة والناس أن لا يكفي أن يحلم الإنسان فقط. بعد أن أتممت الثانويّة، كان لي الرغبة في دراسة العلوم العسكريّة، وفي وقتها لم يكن يُسْمَح لي بذلك. وخطر لي أن أدرس الرياضيّات أو الفيزياء. كلّ ذلك لم ينسيني أنّي فلسطينيّ والمعركة قادمة. والجوّ المحيط بي يؤكّد دائمًا أنّي فلسطينيّ. وكان لي معرفة بعلم النفس وحياة الفنّانين والتاريخ والأدب، وتجارب كثيرة ساعدتني على فحص ذاتي.

ما هي القدرات الّتي أمتلكها؟ وما هي الأشياء الّتي أحبّها؟ رغبة في إحداث توازن أو التحام ما بين العمل الّذي أحبّ أن أمارسه وقدرتي عليه، ومن خلال دراستي وجدتُ قدرتي على التصوّر البصريّ وقدرتي على التصوّر التجريديّ، وحبّي للرسم ومعرفتي أنّ الفنون التشكيليّة تستطيع أن تخترق حاجز اللغة في التفاهم مع الآخرين. ذهبت إلى القاهرة وانتسبت لـ «كلّيّة الفنون»، وأخيرًا كانت الصدمة أن واكبت رغبتي فبدأت الدراسة في الكلّيّة، حتّى وأنا في السنة الإعداديّة طرحت على نفسي التخصّص ودرست النحت، وحتّى هذه الفترة لا أشعر بفارق في قدرتي على ممارسة الرسم أو الحفر أو النحت. درست النحت وكنت أزاول الرسم في المنزل والشارع والمقهى. يواكب ذلك قراءة منظّمة للفنون الأخرى والعمل لإيجاد وسيلة للبقاء. كنت أدرك أنّ المارد الكامن في داخلي لا بدّ من أن يلين أدواتي ليستطيع أن يستطيل خارجي ويحطّ بصماته على المادّة. وذلك يحتاج لتدريب قاسٍ وتنظيم وممارسة وتنمية الحواسّ. كنت أعرف أنّ يدي يكمن خلفها خمس حواسّ، ولا بدّ أن تكون هذه اليد هي لحظة العمل. الحواسّ بمخزونها الفكريّ والحسّيّ. حتّى عام 1968 كنت قد شحذت أدواتي بما يكفي لأن أبدأ، ولملمت في طريقي كلّ ما أتيح لي من ثقافة رابضة بين الكتب، أو في الحياة اليوميّة، وتعلّمت من نفسي أن أصبح ناقدًا لإنتاجي ولحياتي.

 

المعرفة: منذ الخمسينات وأنت تقرأ الشعر والقصّة وتسمع الموسيقى وتشاهد السينما، ترى هل انعكس ذلك في إنتاجك التشكيليّ وكيف؟

الحلّاج: دائمًا أقول إنّ ما وهبته لنا الحياة من إمكانيّات هو الخامة الأولى، ولكن تبقى التجربة البشريّة المكثّفة، والممارسة والنظام لنموّ هذه الخامات الّتي وهبتها الطبيعة. وكلّما تتّسع دائرة معرفة الإنسان كلّما كبر حجم إدراكه لها وتمتّعه بها، أي ممارسة التذوّق بالممارسة. لا أستطيع أن أفرّق بين هذه الفنون لأنّك تستطيع أن تكتشف إيقاع الحياة كامنًا بشكل موحّد فيها، هذا الإيقاع يمتلكه الكلّ، أمّا التعبير عنه فيمتلكه الفنّان. مارست الشعر لأنّي تعلّمت القراءة والكتابة، ودرست السينما لأنّي أحبّها، وفكّرت كثيرًا أن أعمل بها كون الكاميرا هي أكبر موقف أيديولوجيّ جماهيريّ مؤثّر، لأنّه يجمع كلّ الفنون على شريط واحد. أمّا الموسيقى، فما من طفل أو إنسان إلّا ودندن بعض الألحان، فما كان منّي إلّا أن طوّرت هذه الإمكانيّة في حدود قدراتي. مَنْ لا يستطيع أن يعيش الحياة طولًا وعرضًا، كيف ينتج عملًا فنّيًّا؟ ولا يكفي أن أمتلك اليد والعين. أمّا عن انعكاس هذه الفنون في عملي، فسأعطي بعض الأمثلة. كنت في برنامجي الموسيقيّ مساء كلّ يوم أربعاء أذهب إلى المكتبة الموسيقيّة في القاهرة، وأسمع وأقرأ عن الموسيقى. كان هناك أحد التماثيل واسمه «الصلب»، أمّا مفجّر إيقاعه فقطعة موسيقيّة كان اسمها «توري لايت»، ومن المونتاج في السينما استفدت التوليف في نسيج اللوحة. إنّ التراكم الكمّيّ في أيّ شيء يحدث عن لحظة ما، التغيير أو التطوير الكيفيّ. فما أراه من الحياة الآن يُحْدِث تراكمًا داخليًّا سيكون منعكسًا في إنتاج المستقبل، مثلما تصنع لوحة، لا بدّ أن يكون هناك تراكم وبداية، وتكون النتيجة اللوحة، لكن ليس بشكل ميكانيكيّ.  

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.